منتدى نزال ملتقى الاجيال

سلسلة رجال حول الرسول ..2  Ezlb9t10


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدى نزال ملتقى الاجيال

سلسلة رجال حول الرسول ..2  Ezlb9t10

منتدى نزال ملتقى الاجيال

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى نزال ملتقى الاجيال


4 مشترك

    سلسلة رجال حول الرسول ..2

    ×NeDoOo×
    ×NeDoOo×
    مشرف المنتدى العام


    عدد المساهمات : 8357
    الجنس : ذكر
    العمر : 30
    الدوله : PalesTine
    العمل : twjihe
    المزاج : عل مزاج
    التميز الذهبي

    سلسلة رجال حول الرسول ..2  Empty سلسلة رجال حول الرسول ..2

    مُساهمة من طرف ×NeDoOo× السبت أغسطس 21, 2010 9:25 pm

    في بيعة العقبة الثانية عندما قدم مكة في موسم الحاج وفد الأنصار، ثلاثة وسبعون رجلا وسيدتان، ليعطوا الله ورسوله بيعتهم، وليتفقوا مع النبي عليه الصلاة والسلام على الهجرة الى المدينة، أنهى الرسول الى عمه العباس نبأ هذا الوفد، وهذه البيعة.. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يثق بعمه في رأيه كله..
    ولما جاء موعد اللقاء الذي انعقد سرا وخفية، خرج الرسول وعمه العباس الى حيث الأنصار ينتظرون..
    ولندع واحدا من أعضاء الوفد يروي لنا النبأ، كما سمع ورأى.. ذلكم هو كعب بن مالك رضي الله عنه:

    ".. وجلسنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب.. وتكلم العباس فقال: يا معشر الخزرج، ان محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا فهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وانه أبى الا الإنحياز اليكم واللحوق بكم..
    فان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه اليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك..
    وان كنتم ترون أنكم مسلموه خاذلوه بعد خروجه اليكم، فمن الآن فدعوه"..
    كان العباس يلقي بكلماته الحازمة هذه، وعيناه تحدقان كعيني الصقر في وجوه الأنصار.. يتتبع وقع الكلام وردود فعله العاجلة..
    ولم يكتف العباس بهذا، فذكاؤه العظيم ذكاء عملي يتقصّى الحقيقة في مجالها المادي، ويواجه كل أبعادها مواجهة الحاسب الخبير..
    هناك استأنف حديثه مع الأنصار بسؤال ذكي ألقاه، ذلك هو:
    " صفوا لي الحرب، كيف تقاتلون عدوّكم"!!؟؟
    ان العباس بفطنته وتجربته مع قريش يدرك أن الحرب لا محالة قادمة بين الاسلام والشرك، فقريش لن تتنازل عن دينها ومجدها وعنادها.
    والاسلام ما دام حقا لن يتنازل للباطل عن حقوقه المشروعة..
    فهل الأنصار، أهل المدينة صامدون للحرب حين تقوم..؟؟
    وهل هم من الناحية الفنية، أكفاء لقريش، يجيدون فنّ الكرّ والفرّ والقتال..؟؟
    من اجل هذا ألقى سؤاله السالف:
    " صفوا لي الحرب، كيف تقاتلون عدوّكم"..؟؟
    كان الأنصار الذين يصغون للعباس رجالا كالأطواد...
    ولم يكد العباس يفرغ من حديثه، لا سيما ذلك السؤال المثير الحافز حتى شرع الأنصار يتكلمون..
    وبدأ عبدالله بن عمرو بن حرام مجيبا على السؤال:
    " نحن، والله، أهل الحرب.. غذينا بها،ومرّنا عليها، وورثناها عن آبائنا وأجدادنا..
    نرمي بالنبل حتى تفنى..
    ثم نطعن بالرماح حتى تنكسر..
    ثم نمشي بالسيوف، فنضارب بها حتى يموت الأعجل منا أو من عدونا"..!!
    وأجاب العباس متهللا:
    " أنتم أصحاب حرب اذن، فهل فيكم دروع"..؟؟
    قالوا:
    " نعم.. لدينا دروع شاملة"..
    ثم دار حديث رائع وعظيم بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين الأنصار.. حديث سنعرض له ان شاء الله فيما بعد.
    هذا موقف العباس في بيعة العقبة..
    وسواء عليه أكان يومئذ اعتنق الاسلام سرا، أم كان لا يزال يفكّر، فان موقفه العظيم هذا يحدد مكانه بين قوى الظلام الغارب، والشروق المقبل،
    ويصوّر أبعاد رجولته ورسوخه..!!
    ويوم يجيء حنين ليؤكد فدائية هذا الهادئ السمت، اللين الجانب، حينما تدعو الحاجة اليها، ويهيب المواقف بها، بينما هي في غير ذلك الظرف الملحّ، مستكنّة تحت الأضلاع، متوارية عن الأضواء..!!
    في السنة الثامنة للهجرة، وبعد ان فتح الله مكة لرسوله ولدينه عز بعض القبائل السائدة في الجزيرة العربية أن يحقق الدين الجديد كل هذا النصر بهذه السرعة..
    فاجتمعت قبائل هوازن وثقيف ونصر وجشم وآخرون. وققروا شنّ حرب حاسمة ضدّ الرسول والمسلمين..
    ان كلمة قبائل لا ينبغي أن تخدعنا عن طبيعة تلك الحروب التي كان يخوضها الرسول طوال حياته. فنظن انها كانت مجرّد مناوشات جبلية صغيرة، فليس هناك حروب أشدّ ضراوة من حروب تلك القبائل في معاقلها..!!
    وادراك هذه الحقيقة لا يعطينا تقديرا سديدا للجهد الخارق الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فحسب، بل يعطينا تقديرا صحيحا وأمينا لقيمة النصر العظيم الذي أحرزه الاسلام والمؤمنون، ورؤية واضحة لتوفيق الله الماثل في هذا النجاح وذلك الانتصار..
    احتشدت تلك القبائل في صفوف للقاء المقاتلين الأشدّاء..
    وخرج اليهم المسلمون في اثني عشر ألفا..
    اثنا عشر ألفا..؟؟
    وممن..؟؟
    من الذين فتحوا مكة بالأمس القريب، وشيعوا الشرك والأصنام الى هاويتها الأخيرة والسحيقة، وارتفعت راياتهم تملأ الأفق دون مشاغب عليها أو مزاحم لها..!!
    هذا شيء يبعث الزهو..
    والمسلمون في آخر المطاف بشر، ومن ثم، فقد ضعفوا امام الزهو الذي ابتعثته كثرتهم ونظامهم، وانتصارهم بمكة، وقالوا:
    " لن نغلب اليوم عن قلة".
    ولما كانت السماء تعدّهم لغاية أجلّ من الحرب وأسمى، فان ركونهم الى قوتهم العسكرية، وزهوهم بانتصارهم الحربي، عمل غير صالح ينبغي أن يبرؤا منه سريعا، ولو بصدمة شافية..
    وكانت الصدمة الشافية هزيمة كبرى مباغتة في أول القتال، حتى اذا ضرعوا الى الله، وبرؤا من حولهم الى حوله، ومن قوتهم الى قوته، انقلبت الهزيمة نصرا، ونزل القرآن الكريم يقول للمسلمين:
    } ويوم حنين اذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا، وضاقت الأرض بما رحبت، ثم وليتم مدبرين. ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنودا لم تروها، وعذب الذين كفروا، وذلك جزاء الكافرين{
    كان صوت العباس يومئذ وثباته من ألمع مظاهر السكينة والاستبسال..

    فبينما كان المسلمون مجتمعين في أحد أودية تهامة ينتظرون مجيء عدوّهم، كان المشركون قد سبقوهم الى الوادي وكمنوا لهم في شعابه وأحنائه، شاحذين أسلحتهم، ممسكين زمام المبادرة بأيديهم..
    وعلى حين غفلة، انقضّوا على المسلمين في مفاجأة مذهلة، جعلتهم يهرعون بعيدا، لا يلوي أحد على أحد..
    ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثه الهجوم المفاجئ الخاطف على المسلمين، فعلا صهوة بغلته البيضاء، وصاح:
    " الى أين أيها الناس..؟؟
    هلموا اليّ..
    أنا النبي لا كذب..
    انا ابن عبد المطلب"..
    لم يكن حول النبي ساعتئذ سوى أبي بكر، وعمر، وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وولده الفضل بن العباس، وجعفر بن الحارث، وربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد، وقلة أخرى من الأصحاب..
    وكان هناك سيدة أخذت مكانا عاليا بين الرجال والأبطال..
    تلك هي أم سليم بنت ملحان..
    رأت ذهول المسلمين وارتباكهم، فركبت جمل زوجها أبي طلحة رضي الله عنهما، وهرولت بها نحو الرسول..
    ولما تحرك جنينها في بطنها، وكانت حاملا، خلعت بردتها وشدّت بها على بطنها في حزام وثيق، ولما انتهت الى النبي صلى الله عليه وسلم شاهرة خنجرا في يمينها ابتسم لها الرسول وقال:
    " أم سليم؟؟"..
    قالت: " نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله..
    اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك، كما تقتل الذين يقاتلونك، فانهم لذلك أهل"..
    وازدادت البسمة ألقا على وجه الرسول الواشق بوعد ربه وقال لها:
    " ان الله قد كفى وأحسن يا أم سليم"..!!
    هناك ورسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف، كان العباس الى جواره، بل كان بين قدميه بخطام بغلته يتحدى الموت والخطر..
    وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصرخ في الناس، وكان العباس جسيما جهوري الصوت، فراح ينادي:
    " يا معشر الأنصار..
    يا أصحاب البيعة"...
    وكانما كان صوته داعي القدر ونذيره..
    فما كاد يقرع أسماع المرتاعين من هول المفاجأة، المشتتين في جنبات الوادي، حتى أجابوا في صوت واحد:
    " لبّيك.. لبّيك"..
    وانقلبوا راجعين كالاعصار، حتى ان أحدهم ليحرن بعيره أو فرسه، فيقتحم عنها ويترجل، حاملا درعه وسيفه وقوسه، ميممّا صوب موت العباس..
    ودارت المعركة من جديد.. ضارية، عاتية..
    وصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    " الآن حمي الوطيس"..
    وحمي الوطيس حقا..
    وتدحرج قتلى هوازن وثقيف، وغلبت خيل الله خيل اللات، وأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين..!!!
    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العباس عمه حبا كبيرا، حتى انه لم ينم يوم انتهت غزوة بدر، وقضى عمه ليله في الأسر..
    ولم يخف النبي عليه السلام عاطفته هذه، فحين سئل عن سبب أرقه، وقد نصره الله نصرا مؤزرا أجاب:
    " سمعت أنين العباس في وثاقه"..
    وسمع بعض المسلمين كلمات الرسول، فأسرع الى مكان الأسرى، وحلّ وثاق العباس، وعاد فأخبر الرسول قائلا:
    " يا رسول الله..
    اني أرخيت من وثاق العباس شيئا"..
    ولكن لماذا وثاق العباس وحده..؟
    هنالك قال الرسول لصاحبه:
    " اذهب، فافعل ذلك بالأسرى جميعا".
    أجل فحب النبي صلى الله عليه وسلم لعمه لا يعني أن يميزه عن الناس الذين تجمعهم معه ظروف مماثلة..
    وعندما تقرر أخذ الفدية من الأسرى، قال الرسول لعمه:
    " يا عباس..
    افد نفسك، وابن اخيك عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمرو وأخا بني الحارث بن فهر، فانك ذومال"..
    وأرا د العباس أن يغادر أسره بالفدية، قائلا:
    " يا رسول الله، اني كنت مسلما، ولكن القوم استكرهوني"..
    ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أصرّ على الفدية، ونزل لقرآن الكريم في هذه المناسبة يقول:
    }يا ايها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى ان يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم، والله غفور رحيم{
    وهكذا فدى العباس نفسه ومن معه ، ولم تخدعه قريش بعد ذلك عن عقله وهداه، فبعد حين جمع ماله وحمل متاعه، وأدرك الرسول بخيبر، ليأخذ مكانه في موكب الاسلام، وقافلة المؤمنين.. وصار موضع حب المسلمين واجلالهم العظيم، لا سيما وهم يرون تكريم الرسول له وحبه اياه وقوله عنه:
    " انما العباس صنو أبي..
    " فمن آذى العباس فقد آذاني".
    وأنجب العباس ذريّة مباركة.
    وكان حبر الأمة عبدالله بن عباس واحدا من هؤلاء الأبناء المباركين.
    وفي يوم الجمعة لأربع عشرة سنة خلت من رجب سنة اثنتين وثلاثين سمع اهل العوالي بالمدينة مناديا ينادي:
    " رحم الله من شهد العباس بن عبد المطلب".
    فأدركوا أن العباس قد مات..
    وخرج الناس لتشييعه في أعداد هائلة لم تعهد المدينة مثلها..
    وصلى عليه خليفة المسلمين يومئذ عثمان رضي الله عنه.
    وتحت ثرى البقيع هدأ جثمان أبي الفضل واستراح..
    ونام قرير العين، بين الأبرار الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه!!

    </B></FONT>
    ×NeDoOo×
    ×NeDoOo×
    مشرف المنتدى العام


    عدد المساهمات : 8357
    الجنس : ذكر
    العمر : 30
    الدوله : PalesTine
    العمل : twjihe
    المزاج : عل مزاج
    التميز الذهبي

    سلسلة رجال حول الرسول ..2  Empty رد: سلسلة رجال حول الرسول ..2

    مُساهمة من طرف ×NeDoOo× السبت أغسطس 21, 2010 9:26 pm

    { أبو هريرة - ذاكرة عصر الوحي }


    صحيح أن ذكاء المرء محسوب عليه..
    وأصحاب المواهب الخارقة كثيرا ما يدفعون الثمن في نفس الوقت الذي كان ينبغي أن يتلقوا فيه الجزاء والشكران..!!
    والصحابي الجليل أبو هريرة واحد من هؤلاء..
    فقد كان ذا موهبة خارقة في سعة الذاكرة وقوتها..
    كان رضي الله عنه يجيد فنّ الاصغاء، وكانت ذاكرته تجيد فن الحفظ والاختزان.. يسمع فيعي، فيحفظ ، ثم لا يكاد ينسى مما وعى كلمة ولا حرفا مهما تطاول العمر، وتعاقبت الأيام..!!
    من أجل هذا هيأته موهبته ليكون أكثر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم حفظا لأحاديثه ، وبالتالي أكثرهم رواية لها.
    فلما جاء عصر الوضّاعين الذين تخصصوا في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اتخذوا أبا هريرة غرضا مستغلين أسوأ استغلال سمعته العريضة في الرواية عن رسول الله عليه السلام موضع الارتياب والتساؤل. لولا تلك الجهود البارة والخارقة التي بذلها أبرار كبار نذروا حياتهم وكرّسوها لخدمة الحديث النبوي ونفي كل زيف ودخيل عنه.
    هنالك نجا أبو هريرة رضي الله عنه من أخطبوط الأكاذيب والتلفيقات التي أراد المفسدون أن يتسللوا بها الى الاسلام عن طريقه ، وأن يحمّلوه وزرها وأذاها..!!


    والآن.. عندما نسمع واعظا ، أو محاضرا، أو خطيب جمعة يقول تلك العبارة المأثورة:" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم..".
    أقول: عندما تسمع هذا الاسم على هذه الصورة ، أو عندما تلقاه كثيرا ، وكثيرا جدّا في كتب الحديث ، والسيرة والفقه والدين بصفة عامة ، فاعلم أنك تلقى شخصية من أكثر شخصيات الصحابة اغراء بالصحبة والاصغاء..
    ذلك أن ثروته من الأحاديث الرائعة ، والتوجيهات الحكيمة التي حفظها عن النبي عليه السلام ، قلّ أن يوجد لها نظير..
    وانه رضي الله عنه بما يملك من هذه الموهبة ، وهذه الثروة ، لمن أكثر الأصحاب مقدرة على نقلك الى تلك الأيام التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، والى التحليق بك ، اذا كنت وثيق الايمان مرهف النفس ، في تلك الآفاق التي شهدت روائع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، تعطي الحياة معناها ، وتهدي اليها رشدها ونهاها.
    واذا كانت هذه السطور قد حرّكت أشواقك لأن تتعرّف لأبي هريرة وتسمع من أنبائه نبأ، فدونك الآن وما تريد..


    انه واحد من الذين تنعكس عليهم ثروة الاسلام بكل ما أحدثته من تغيرات هائلة.
    فمن أجير الى سيّد..
    ومن تائه في الزحام، الى عالم وامام..!!
    ومن ساجد أمام حجارة مركومة ، الى مؤمن بالله الواحد القهار..
    وهاهو ذا يتحدّث ويقول:
    " نشأت يتيما ، وهاجرت مسكينا.. وكنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني..!!
    كنت أخدمهم اذا نزلوا ، وأحدو لهم اذا ركبوا..
    وهأنذا وقد زوّجنيها الله ، فالحمد لله الذي جعل الدين قواما ، وجعل أبا هريرة اماما"..!
    قدم على النبي عليه الصلاة والسلام سنة سبع وهو بخيبر، فأسلم راغبا مشتاقا..
    ومنذ رأى النبي عليه الصلاة والسلام وبايعه لم يكد يفارقه قط الا في ساعات النوم..
    وهكذا كانت السنوات الأربع التي عاشها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم الى أن ذهب النبي الى الرفيق الأعلى.
    نقول: كانت تلك السنوات الأربع عمرا وحدها.. كانت طويلة عريضة ، ممتلئة بكل صالح من القول ، والعمل ، والاصغاء.
    أدرك أبو هريرة بفطرته السديدة الدور الكبير الذي يستطيع أن يخدم به دين الله.
    ان أبطال الحرب في الصحابة كثيرون..
    والفقهاء والدعاة والمعلمون كثيرون.
    ولكن البيئة والجماعة تفتقد الكتابة والكتّاب.
    ففي تلك العصور ، وكانت الجماعة الانسانية كلها ، لا العرب وحدهم ، لا يهتمون بالكتابة ، ولم تكن الكتابة من علامات التقدم في مجتمع ما..
    بل انّ أوروبا نفسها كانت كذلك منذ عهد غير بعيد.
    وكان أكثر ملوكها وعلى رأسهم شارلمان أميّين لا يقرءون ولا يكتبون ، مع أنهم في نفس الوقت كانوا على حظ كبير من الذكاء والمقدرة..
    نعود الى حديثنا لنرى أبا هريرة يدرك بفطرته حاجة المجتمع الجديد الذي يبنيه الاسلام الى من يحفظن تراثه وتعاليمه ، كان هناك يومئذ من الصحابة كتّاب يكتبون ولكنهم قليلون ، ثم ان بعضهم لا يملك من الفراغ ما يمكّنه من تسجيل كل ما ينطق به الرسول من حديث.
    لم يكن أبا هريرة كاتبا ، ولكنه كان حافظا ، وكان يملك هذا الفراغ ، أو هذا الفراغ المنشود، فليس له أرض يزرعها ولا تجارة يتبعها!!
    وهو اذا رأى نفسه وقد أسلم متأخرا ، عزم على أن يعوّض ما فاته ، وذلك بأن يواظب على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى مجالسته..
    ثم انه يعرف من نفسه هذه الموهبة التي أنعم الله بها عليه ، وهي ذاكرته الرحبة القوية ، والتي زادت مضاء ورحابة وقوة ، بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبها أن يبارك الله له فيها..
    فلماذا اذن لا يكون واحدا من الذين يأخذون على عاتقهم حفظ هذا التراث ونقله للأجيال..؟؟
    أجل.. هذا دوره الذي تهيئه للقيام به مواهبه ، وعليه أن يقوم به في غير توان..
    ولم يكن أبو هريرة ممن يكتبون ، ولكنه كان كما ذكرنا سريع الحفظ قوي الذاكرة..
    ولم تكن له أرض يزرعها ، ولا تجارة تشغله ، ومن ثمّ لم يكن يفارق الرسول في سفر ولا في حضر..
    وهكذا راح يكرّس نفسه ودقة ذاكرته لحفظ أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام وتوجيهاته..
    فلما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى ، راح أبو هريرة يحدث ، مما جعل بعض أصحابه يعجبون: أنّى له كل هذه الآحاديث، ومتى سمعها ووعاها..

    يتبع
    ×NeDoOo×
    ×NeDoOo×
    مشرف المنتدى العام


    عدد المساهمات : 8357
    الجنس : ذكر
    العمر : 30
    الدوله : PalesTine
    العمل : twjihe
    المزاج : عل مزاج
    التميز الذهبي

    سلسلة رجال حول الرسول ..2  Empty رد: سلسلة رجال حول الرسول ..2

    مُساهمة من طرف ×NeDoOo× السبت أغسطس 21, 2010 9:27 pm

    ولقد ألقى أبوهريرة رضي الله عنه الضوء على هذه الظاهرة ، وكأنه يدفع عن نفسه مغبة تلك الشكوك التي ساورت بعض أصحابه فقال:
    " انكم لتقولون أكثر أبو هريرة في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم..
    وتقولون: ان المهاجرين الذين سبقوه الى الاسلام لا يحدثون هذه الأحاديث..؟؟
    ألا ان أصحابي من المهاجرين ، كانت تشغلهم صفقاتهم بالسوق ، وان أصحابي من الأنصار كانت تشغلهم أرضهم..
    واني كنت أجيرا مسكينا ، أكثر مجالسة رسول الله ، فأحضر اذا غابوا ، وأحفظ اذا نسوا..
    وان النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا يوما فقال: من يبسط رداءه حتى يفرغ من حديثي ثم يقبضه اليه فلا ينسى شيئا كان قد سمعه مني..! فبسطت ثو بي فحدثني ثم ضممته اليّ فوالله ما كنت نسيت شيئا سمعته منه..
    أي والله ، لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بشيء أبدا ، وهي:



    ( ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)..".
    هكذا يفسر أبو هريرة سر تفرّده بكثرة الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
    فهو أولا كان متفرغا لصحبة النبي أكثر من غيره..
    وهو ثانيا كان يحمل ذاكرة قوية ، باركها الرسول فزادت قوة..
    وهو ثالثا لا يحدّث رغبة في أن يحدّث ، بل لأن افشاء هذه الأحاديث مسؤولية دينه وحياته ، والا كان كاتما للخير والحق، وكان مفرطا ينتظره جزاء المفرّطين..
    من أجل هذا راح يحدّث ويحدّث، لا يصدّه عن الحديث صادّ ، ولا يعتاقه عائق.. حتى قال له عمر يوما وهو أمير المؤمنين:
    " لتتركنّ الحديث عن رسول الله،أو لألحقنك بأرض دوس"..
    أي أرض قومه وأهله..
    على أن هذا النهي من أمير المؤمنين لا يشكل اتهاما لأبي هريرة، بل هو دعم لنظرية كان عمر يتبنّاها ويؤكدها ، تلك هي: أن على المسلمين في تلك الفترة بالذات ألا يقرؤوا ، وألا يحفظوا شيئا سوى القرآن حتى يقرّ وثبت في الأفئدة والعقول..
    فالقرآن كتاب الله ، ودستور الاسلام ، وقاموس الدين ، وكثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا سيما في تلك التي أعقبت وفاته عليه الصلاة والسلام ، والتي يجمع القرآن خلالها قد تسبب بلبلة لا داعي لها ولا جدوى منها..
    من أجل هذا كان عمر يقول:
    " اشتغلوا بالقرآن، فان القرآن كلام الله"..
    ويقول:
    " أقلوا الرواية عن رسول الله الا فيما يعمل به"..
    وحين أرسل أبو موسى الأشعري الى العراق قال له:
    " انك تأتي قوما لهم في مساجدهم دويّ القرآن كدويّ النحل، فدعهم على ما هم عليه ، ولا تشغلهم بالحديث ، وأنا شريكك في ذلك"..
    كان القرآن قد جمع بطريقة مضمونة دون أن يتسرب اليه ما ليس منه..
    اما الأحاديث فليس يضمن عمر أن تحرّف أو تزوّر ، أو تتخذ سبيل للكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والنيل من الاسلام..
    وكان أبو هريرة يقدّر وجهة نظر عمر ، ولكنه أيضا كان واثقا من نفسه ومن أمانته ، وكان لا يريد أن يكتم من الحديث والعلم ما يعتقد أن كتمانه اثم وبوار.
    وهكذا.. لم يكن يجد فرصة لافراغ ما في صدره من حديث سنعه ووعاه الا حدّث وقال..
    على أن هناك سببا هامّا ، كان له دور في اثارة المتاعب حول أبي هريرة لكثرة تحدثه وحديثه.
    ذلك أنه كان هناك يومئذ محدّث آخر يحدّث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويكثر ويسرف ، ولم يكن المسلمون الأصحاب يطمئنون كثيرا لأحاديثه ذلكم هو كعب الأحبار الذي كان يهوديا وأسلم.
    أراد مروان بن الحكم يوما أن يبلو مقدرة أبي هريرة على الحفظ، فدعاه اليه وأجلسه معه ، وطلب منه أن يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في حين أجلس كاتبه وراء حجاب ، وأمره أن يكتب كل ما يقول أبو هريرة..
    وبعد مرور عام ، دعاه مروان بن الحكم مرة أخرى ، أخذ يستقرئه نفس الأحاديث التي كان كاتبه قد سطرها ، فما نسي أبو هريرة كلمة منها!!
    وكان يقول عن نفسه:
    " ما من أحد من أصحاب رسول الله أكثر حديثا عنه مني ، الا ما كان من عبدالله بن عمرو بن العاص ، فانه كان يكتب ، ولا أكتب"..
    وقال عنه الامام الشافعي أيضا:
    " أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره".
    وقال البخاري رضي الله عنه:
    " روي عن أبو هريرة مدرسة كبيرة يكتب لها البقاء والخلود..
    وكان أبو هريرة رضي الله عنه من العابدين الأوّابين، يتناوب مع زوجته وابنته قيام الليل كله.. فيقوم هو ثلثه، وتقوم زوجته ثلثه ، وتقوم ابنته ثلثله . وهكذا لا تمر من الليل ساعة الا وفي بيت أبي هريرة عبادة وذكر وصلاة!!
    وفي سبيل أن يتفرّغ لصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عانى من قسوة الجوع ما لم يعاني مثله أحد..
    وانه ليحدثنا: كيف كان الجوع يعض أمعاءه فيشدّ على بطنه حجرا ويعتصر كبده بيديه، ويسقط في المسجد وهو يتلوىحتى يظن بعض أصحابه أن به صرعا وما هو بمصروع..!
    ولما أسلم لم يكن يؤوده ويضنيه من مشاكل حياته سوى مشكلة واحدة لم يكن رقأ له بسببها جفن..
    كانت هذه المشكلة أمه: فانها يومئذ رفضت أن تسلم..
    ليس ذلك وحسب ، بل كانت تؤذي ابنها في رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذكره بسوء..
    وذات يوم أسمعت أبا هريرة في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكره ، فانفضّ عنها باكيا محزونا ، وذهب الى مسجد الرسول..
    ولنصغ اليه وهو يروي لنا بقيّة النبأ:
    ".. فجئت الى رسول الله وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله ، كنت أدعو أم أبي هريرة الى الاسلام فتأبى علي ، واني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره ، فادع الله أن يهدي أم أبا هريرةالى الاسلام..
    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد أم أبي هريرة..
    فخرجت أعدو أبشرها بدعاء رسول الله، فلما أتيت الباب اذا هو مجاف ، أي مغلق ، وسمعت خضخضة ماء ، ونادتني يا أبا هريرة مكانك..
    ثم لبست درعها ، وعجلت عن خمارها وخرجت وهي تقول: أشهد أن لا اله الا الله ، وأِشهد أن محمدا عبده ورسوله..
    فجئت أسعى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي من الفرح ، كما بكيت من الحزن ، وقلت: أبشر يا رسول الله ، فقد أجاب الله دعوتك..
    قد هدى أم أبي هريرة الى الاسلام..
    ثم قلت يا رسول الله: ادع الله أن يحبّبني وأمي الى المؤمنين والمؤمنات..
    فقال: اللهم حبّب عبدك هذا وأمه الى كل مؤمن ومؤمنة"..
    وعاش أبو هريرة عابدا، ومجاهدا.. لا يتخلف عن غزوة ولا عن طاعة.
    وفي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولاه امارة البحرين.
    وعمر كما نعلم شديد المحاسبة لولاته.
    اذا ولّى أحدهم وهو يملك ثوبين ، فيجب أن يترك الولاية وهو لا يملك من دنياه سوى ثوبيه.. ويكون من الأفضل أن يتركها وله ثوب واحد..!!!
    أما اذا خرج من الولاية وقد ظهرت عليه أعراض الثراء ، فآنئذ لا يفلت من حساب عمر ، مهما يكن مصدر ثرائه حلالا مشروعا!
    دنيا أخرى.. ملأها عمر روعة واعجازا..!!
    وحين وليّ أبو هريرة البحرين ادّخر مالا ، من مصادره الحلال ، وعلم عمر فدعاه الى المدينة..
    ولندع أبو هريرة يروي لنا ما حدث بينهما من حوار سريع:
    " قال لي عمر:
    يا عدو الله وعدو كتابه ، أسرقت مال الله..؟؟
    قلت:
    ما أنا بعدو لله ولا عدو لكتابه،.. لكني عدو من عاداهما..
    ولا أنا من يسرق مال الله..!
    قال:
    فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف..؟؟
    قلت:
    خيل لي تناسلت، وعطايا تلاحقت..
    قال عمر: فادفعها الى بيت مال المسلمين"..!!
    ودفع أبو هريرة المال الى عمر ثم رفع يديه الى السماء وقال:
    اللهم اغفر لأمير المؤمنين"..
    وبعد حين دعا عمر أبا هريرة ، وعرض عليه الولاية من حديد ، فأباها واعتذر عنها..
    قال له عمر: ولماذا؟
    قال أبو هريرة:
    حتى لا يشتم عرضي ، ويؤخذ مالي ، ويضرب ظهري..
    ثم قال:
    وأخاف أن أقضي بغير علم
    وأقول بغير حلم..
    وذات يوم اشتد شوقه الى لقاء الله..
    وبينما كان عوّاده يدعون له بالشفاء من مرضه ، كان هو يلحّ على الله قائلا:
    " اللهم اني أحب لقاءك ، فأحب لقائي"..
    وعن ثماني وسبعين سنة مات في العام التاسع والخمسين للهجرة.
    ودفن في البقيع حيث تبوأ جثمانه الوديع مكانا مباركا..
    وبينما كان مشيعوه عائدين من جنازته ، كانت ألسنتهم ترتل الكثير من الأحاديث التي حفظها لهم عن رسولهم الكريم.
    ولعل واحدا من المسلمين الجدد كان يميل على صاحبه ويسأله:
    لماذا كنّى شيخنا الراحل بأبي هريرة..؟؟
    فيجيبه صاحبه وهو الخبير بالأمر:
    لقد كان اسمه في الجاهلية عبد شمس ، ولما أسلم سمّاه الرسول عبدالرحمن.. ولقد كان عطوفا على الحيوان ، وكنت له هرة، يطعمها ، ويحملها ، وينظفها ، ويؤويها.. وكانت تلازمه كظله..
    وهكذا دعي: أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه..
    ×NeDoOo×
    ×NeDoOo×
    مشرف المنتدى العام


    عدد المساهمات : 8357
    الجنس : ذكر
    العمر : 30
    الدوله : PalesTine
    العمل : twjihe
    المزاج : عل مزاج
    التميز الذهبي

    سلسلة رجال حول الرسول ..2  Empty رد: سلسلة رجال حول الرسول ..2

    مُساهمة من طرف ×NeDoOo× السبت أغسطس 21, 2010 9:27 pm

    { أبوالدرداء - أيّ حكيم كان }

    بينما كانت جيوش الاسلام تضرب في مناكب الأرض.. هادرة ظافرة.. كان يقيم بالمدينة فيلسوف عجيب.. وحكيم تتفجر الحكمة من جوانبه في كلمات تناهت نضرة وبهاء...وكان لا يفتأ يقول لمن حوله:
    " ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند باريكم، وأنماهي في درجاتكم، وخير من أن تغزو عدوّكم، فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم، وخير من الدراهم والدنانير".؟؟
    وتشرئب أعناق الذين ينصتون له.. ويسارعون بسؤاله:
    " أي شيء هو.. يا أبا الدرداء"..؟؟
    ويستأنف أبو الدرداء حديثه فيقول ووجهه يتألق تحت أضواء الايمان والحكمة:
    " ذكر الله...
    ولذكر الله أكبر"..
    لم يكن هذا الحكيم العجيب يبشر بفلسفة انعزالية ولم يكن بكلماته هذه يبشر بالسلبية، ولا بالانسحاب من تبعات الدين الجديد.. تلك التبعات التي يأخذ الجهاد مكان الصدارة منها...
    أجل.. ما كان أبو الدرداء ذلك الرجل، وهو الذي حمل سيفه مجاهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم، حتى جاء نصر الله والفتح..
    بيد أنه كان من ذلك الطراز الذي يجد نفسه في وجودها الممتلئ الحيّ، كلما خلا الى التأمل، وأوى الى محراب الحكمة، ونذر حياته لنشدان الحقيقة واليقين..؟؟
    ولقد كان حكيم تلك الأيام العظيمة أبو الدرداء رضي الله عنه انسانا يتملكه شوق عارم الى رؤية الحقيقة واللقاء بها..
    واذ قد آمن بالله وبرسوله ايمانا وثيقا، فقد آمن كذلك بأن هذا الايمان بما يمليه من واجبات وفهم، هو طريقه الأمثل والأوحد الى الحقيقة..
    وهكذا عكف على ايمانه مسلما الى نفسه، وعلى حياته يصوغها وفق هذا الايمان في عزم، ورشد، وعظمة..
    ومضى على الدرب حتى وصل.. وعلى الطريق حتى بلغ مستوى الصدق الوثيق.. وحتى كان يأخذ مكانه العالي مع الصادقين تماما حين يناجي ربه مرتلا آياته..
    ( ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العلمين).
    أجل.. لقد انتهى جهاد أبي الدرداء ضدّ نفسه، ومع نفسه الى تلك الذروة العالية.. الى ذلك التفوق البعيد.. الى ذلك التفاني الرهباني، الذي جعل حياته، كل حياته لله رب العالمين..!!
    والآن تعالوا نقترب من الحكيم والقدّيس.. ألا تبصرون الضياء الذي يتلألأ حول جبينه..؟
    ألا تشمّون العبير الفوّاح القادم من ناحيته..؟؟
    انه ضياء الحكمة، وعبير الايمان..
    ولقد التقى الايمان والحكمة في هذا الرجل الأوّاب لقاء سعيدا، أيّ سعيد..!!

    سألت أمه عن أفضل ما كان يحب من عمل.. فأجاب:
    " التفكر والاعتبار".
    أجل لقد وعى قول الله في أكثر من آية:
    (فاعتبروا يا أولي الأبصار)...
    وكان وهو يحضّ اخوانه على التأمل والتفكّر يقول لهم:
    " تفكّر ساعة خير من عبادة ليلة"..
    لقد استولت العبادة والتأمل ونشدان الحقيقة على كل نفسه.. وكل حياته..
    ويوم اقتنع بالاسلام دينا، وبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الدين الكريم، كان تاجرا ناجحا من تجار المدينة النابهين، وكان قد قضى شطر حياته في التجارة قبل أن يسلم، بل وقبل أن يأتي الرسول والمسلمون المدينة مهاجرين..
    بيد أنه لم يمض على اسلامه غير وقت وجيز حتى..
    ولكن لندعه هو يكمل لنا الحديث:
    " أسلمت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنا تاجر..
    وأردت أن تجتمع لي العبادة والتجارة فلم يجتمعا..
    فرفضت التجارة وأقبلت على العبادة.
    وما يسرّني اليوم أن أبيع وأشتري فأربح كل يوم ثلاثمائة دينار، حتى لو يكون حانوتي على باب المسجد..
    ألا اني لا أقول لكم: ان الله حرّم البيع..
    ولكني أحبّ أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله"..!!
    أرأيتم كيف يتكلّم فيوفي القضيّة حقها، وتشرق الحكمة والصدق من خلال كلماته..؟؟
    انه يسارع قبل أن نسأله: وهل حرّم الله التجارة يا أبا الدرداء...؟؟
    يسارع فينفض عن خواطرنا هذا التساؤل، ويشير الى الهدف الأسمى الذي كان ينشده، ومن أجله ترك التجارة برغم نجاحه فيها..
    لقد كان رجلا ينشد تخصصا روحيا وتفوقا يرنو الى أقصى درجات الكمال الميسور لبني الانسان..
    لقد أراد العبادة كمعراج يرفعه الى عالم الخير الأسمى، ويشارف به الحق في جلاله، والحقيقة في مشرقها، ولو أرادها مجرّد تكاليف تؤدّى، ومحظورات تترك، لاستطاع أن يجمع بينها وبين تجارته وأعماله...
    فكم من تجار صالحين.. وكم من صالحين تجار...
    ولقد كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم تلههم تجارتهم ولا بيعهم عن ذكر الله.. بل اجتهدوا في انماء تجارتهم وأموالهم ليخدموا بها قضية الاسلام، ويكفوا بها حاجات المسلمين..
    ولكن منهج هؤلاء الأصحاب، لا يخدم منهج أبو الدرداء، كما أن منهجه لا يخدم منهجهم، فكل ميسّر لما خلق له..
    وأبو الدرداء يحسّ احساسا صادقا أنه خلق لما نذر له حياته..
    التخصص في نشدان الحقيقة بممارسة أقصى حالات التبتل وفق الايمان الذي هداه اليه ربه، ورسوله والاسلام..
    سمّوه ان شئتم تصوّفا..
    ولكنه تصوّف رجل توفّر له فطنة المؤمن، وقدرة الفيلسوف، وتجربة المحارب، وفقه الصحابي، ما جعل تصوّفه حركة حيّة في بناء الروح، لا مجرّد ظلال صالحة لهذا البناء..!!
    أجل..



    ذلك هو أبو الدرداء، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلميذه..
    وذلكم هو أبو الدرداء، الحكيم، القدّيس..
    ورجل دفع الدنيا بكلتا راحتيه، وزادها بصدره..
    رجل عكف على نفسه وصقلها وزكّاها، وحتى صارت مرآة صافية انعكس عليها من الحكمة، والصواب، والخير، ما جعل من أبي الدرداء معلما عظيما وحكيما قويما..
    سعداء، أولئك الذين يقبلون عليه، ويصغون اليه..
    ألا تعالوا نقترب من حكمته يا أولي الألباب..
    ولنبدأ بفلسفته تجاه الدنيا وتجاه مباهجها وزخارفها..
    انه متأثر حتى أعماق روحه بآيات القرآن الرادعة عن:
    ( الذي جمع مالا وعدّده.. يحسب أن ماله اخلده)...
    ومتأثر حتى أعماق روحه بقول الرسول:
    " ما قلّ وكفى، خير مما كثر وألهى"..
    ويقول عليه السلام:
    " تفرّغوا من هموم الدنيا ما استطعتم، فانه من كانت الدنيا أكبر همّه، فرّق الله شمله، وجعل فقره بين عينيه.. ومن كانت الآخرة أكبر همّه جمع شمله، وجعل غناه في قلبه، وكان الله اليه بكل خير أسرع".
    من أجل ذلك، كان يرثي لأولئك الذين وقعوا أسرى طموح الثروة ويقول:
    " اللهم اني أعوذ بك من شتات القلب"..
    سأله البعض:
    وما شتات القلب يا أبا الدرداء..؟؟
    فأجاب:
    أن يكون لي في كل واد مال"..!!
    وهو يدعو الناس الى امتلاك الدنيا والاستغناء عنها.. فذلك هو الامتلاك الحقيقي لها.. أما الجري وراء أطماعها التي لا تؤذن بالانتهاء، فذلك شر ألوان العبودية والرّق.
    هنالك يقول:
    " من لم يكن غنيا عن الدنيا، فلا دنيا له"..
    والمال عنده وسيلة للعيش القنوع المعتدل ليس غير.
    ومن ثم فان على الناس أن يأخذوه من حلال، وأن يكسبوه في رفق واعتدال، لا في جشع وتهالك.
    فهو يقول:
    " لا تأكل الا طيّبا..
    ولا تكسب الا طيّبا..
    ولا تدخل بيتك الا طيّبا".
    ويكتب لصاحب له فيقول:
    ".. أما بعد، فلست في شيء من عرض الدنيا، والا وقد كان لغيرك قبلك.. وهو صائر لغيرك بعدك.. وليس لك منه الا ما قدّمت لنفسك... فآثرها على من تجمع المال له من ولدك ليكون له ارثا، فأنت انما تجمع لواحد من اثنين:
    اما ولد صالح يعمل فيه بطاعة الله، فيسعد بما شقيت به..
    واما ولد عاص، يعمل فيه بمعصية الله، فتشقى بما جمعت له،
    فثق لهم بما عند الله من رزق، وانج بنفسك"..!
    كانت الدنيا كلها في عين أبي الدرداء مجرّد عارية..
    عندما فتحت قبرص وحملت غنائم الحرب الى المدينة رأى الناس أبا الدرداء يبكي... واقتربوا دهشين يسألونه، وتولى توجيه السؤال اليه:" جبير بن نفير":
    قال له:
    " يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الاسلام وأهله"..؟؟
    فأجاب أبو الدرداء في حكمة بالغة وفهم عميق:
    ويحك يا جبير..
    ما أهون الخلق على الله اذا هم تركوا أمره..
    بينما هي أمة، ظاهرة، قاهرة، لها الملك، تركت أمر الله، فصارت الى ما ترى"..!
    أجل..
    وبهذا كان يعلل الانهيار السريع الذي تلحقه جيوش الاسلام بالبلاد المفتوحة، افلاس تلك البلاد من روحانية صادقة تعصمها، ودين صحيح يصلها بالله..
    ومن هنا أيضا، كان يخشى على المسلمين أياما تنحلّ فيها عرى الايمان، وتضعف روابطهم بالله، وبالحق، وبالصلاح، فتنتقل العارية من أيديهم، بنفس السهولة التي انتقلت بها من قبل اليهم..!!
    وكما كانت الدنيا بأسرها مجرّد عارية في يقينه، كذلك كانت جسرا الى حياة أبقى وأروع..
    دخل عليه أصحابه يعودونه وهو مريض، فوجدوه نائما على فراش من جلد..
    فقالوا له:" لو شئت كان لك فراش أطيب وأنعم.."
    فأجابهم وهو يشير بسبّابته، وبريق عينيه صوب الأمام البعيد:
    " ان دارنا هناك..
    لها نجمع.. واليها نرجع..
    نظعن اليها. ونعمل لها"..!!
    وهذه النظرة الى الدنيا ليست عند أبي الدرداء وجهة نظر فحسب بل ومنهج حياة كذلك..
    خطب يزيد بن معاوية ابنة الدرداء فردّه، ولم يقبل خطبته، ثم خطبها واحد من فقراء المسلمين وصالحيهم، فزوّجها أبو الدرداء منه.
    وعجب الناس لهذا التصرّف، فعلّمهم أبو الدرداء قائلا:
    " ما ظنّكم بالدرداء، اذا قام على رأسها الخدم وبهرها زخرف القصور..
    أين دينها منها يومئذ"..؟!
    هذا حكيم قويم النفس، ذكي الفؤاد..
    وهو يرفض من الدنيا ومن متاعها كل ما يشدّ النفس اليها، ويولّه القلب بها..
    وهو بهذا لا يهرب من السعادة بل اليها..
    فالسعادة الحقة عنده هي أن تمتلك الدنيا، لا أن تمتلكك أنت الدنيا..
    وكلما وقفت مطالب الناس في الحياة عند حدود القناعة والاعتدال وكلما أدركوا حقيقة الدنيا كجسر يعبرون عليه الى دار القرار والمآل والخلود، كلما صنعوا هذا، كان نصيبهم من السعادة الحقة أوفى وأعظم..
    وانه ليقول:
    " ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يعظم حلمك، ويكثر علمك، وأن تباري الناس في عبادة الله تعالى"..
    وفي خلافة عثمان رضي الله عنه، وكان معاوية أميرا على الشام نزل أبو الدرداء على رغبة الخليفة في أن يلي القضاء..
    وهناك في الشام وقف بالمرصاد لجميع الذين أغرّتهم مباهج الدنيا، وراح يذكّر بمنهج الرسول في حياته، وزهده، وبمنهج الرعيل الأول من الشهداء والصدّيقين..
    وكانت الشام يومئذ حاضرة تموج بالمباهج والنعيم..
    وكأن أهلها ضاقوا ذرعا بهذا الذي ينغصّ عليهم بمواعظه متاعهم ودنياهم..

    فجمعهم أبو الدرداء، وقام فيهم خطيبا:
    " يا أهل الشام..
    أنتم الاخوان في الدين، والجيران في الدار، والأنصار على الأعداء..
    ولكن مالي أراكم لا تستحيون..؟؟
    تجمعون ما لا تأكلون..
    وتبنون ما لا تسكنون..
    وترجون ما لا تبلّغون..
    وقد كانت القرون من قبلكم يجمعون، فيوعون..
    ويؤمّلون، فيطيلون..
    ويبنون، فيوثقون..
    فأصبح جمعهم بورا..
    وأمانيهم غرورا..
    وبيوتهم قبورا..
    أولئك قوم عاد، ملؤا ما بين عدن الى عمان أموالا وأولادا..".
    ثم ارتسمت على شفتيه بسمة عريضة ساخرة، ولوّح بذراعه في الجمع الذاهل، وصاح في سخرية لا فحة:
    " من يشتري مني تركة آل عاد بدرهمين"..؟!
    رجل باهر، رائع، مضيء، حكمته مؤمنة، ومشاعره ورعة، ومنطقه سديد ورشيد..!!
    العبادة عند أبي الدرداء ليست غرورا ولا تأليا. انما هي التماس للخير، وتعرّض لرحمة الله، وضراعة دائمة تذكّر الانسان بضعفه. وبفضل ربه عليه:
    انه يقول:
    التمسوا الخير دهركم كله..
    وتعرّضوا لنفحات رحمة الله، فان للله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده..
    " وسلوا الله أن يستر عوراتكم، ويؤمّن روعاتكم"...
    كان ذلك الحكيم مفتوح العينين دائما على غرور العبادة، يحذّر منه الناس.
    هذا الغرور الذي يصيب بعض الضعاف في ايمانهم حين يأخذهم الزهو بعبادتهم، فيتألّون بها على الآخرين ويدلّون..
    فلنستمع له ما يقول:
    " مثقال ذرّة من برّ صاحب تقوى ويقين، أرجح وأفضل من أمثال الجبال من عبادة المغترّين"..
    ويقول أيضا:
    "لا تكلفوا الناس ما لم يكلفوا..
    ولا تحاسبوهم دون ربهم
    عليكم أنفسكم، فان من تتبع ما يرى في الانس يطل حزنه"..!
    عليه أن يحمد الله على توفيقه، وأن يعاون بدعائه وبنبل مشاعره ونواياه أولئك الذين لم يدركوا مثل هذا التوفيق.
    هل تعرفون حكمة أنضر وأبهى من حكمة هذا الحكيم..؟؟
    يحدثنا صاحبه أبو قلابة فيقول:
    " مرّ أبو الدرداء يوما على رجل قد أصاب ذنبا، والناس يسبّونه، فنهاهم وقال: أرأيتم لو وجدتموه في حفرة.. ألم تكونوا مخرجيه منها..؟
    قالوا بلى..
    قال: فلا تسبّوه اذن، وأحمدوا الله الذي عافاكم.
    قالوا: أنبغضه..؟
    قال: انما أبغضوا عمله، فاذا تركه فهو أخي"..!!
    واذاكان هذا أحد وجهي العبادة عند أبي الدرداء، فان وجهها الآخر هو العلم والمعرفة..
    ان أبا الدرداء يقدّس العلم تقديسا بعيدا.. يقدّسه كحكيم، ويقدّسه كعابد فيقول:
    " لا يكون أحدكم تقيا حتى يكون عالما..
    ولن يكون بالعلم جميلا، حتى يكون به عاملا".
    أجل..
    فالعلم عنده فهم، وسلوك.. معرفة، ومنهج.. فكرة حياة..
    ولأن تقديسه هذا تقديس رجل حكيم، نراه ينادي بأن العلم كالمتعلم كلاهما سواء في الفضل، والمكانة، والمثوبة..
    ويرى أن عظمة الحياة منوطة بالعلم الخيّر قبل أي شيء سواه..
    ها هو ذا يقول:
    " مالي أرى العلماء كم يذهبون، وجهّالكم لا يتعلمون؟؟ ألا ان معلّم الخير والمتعلّم في الأجر سواء.. ولا خير في سائر الناس بعدهما"..
    ويقول أيضا:
    " الناس ثلاثة..
    عالم..
    ومتعلم..
    والثالث همج لا خير فيه".
    وكما رأينا من قبل، لا ينفصل العلم في حكمة أبي الدرداء رضي الله عنه عن العمل.
    يقول:
    " ان أخشى ما أخشاه على نفسي أن يقال لي يوم القيامة على رؤوس الخلائق: يا عويمر، هل علمت؟؟
    فأقول نعم..
    فيقال لي: فماذا عملت فيما علمت"..؟
    وكان يجلّ العلماء العاملين ويوقرهم توقيرا كبيرا، بل كان يدعو ربّه ويقول:
    " اللهم اني أعوذ بك أن تلعنني قلوب العلماء.."
    قيل له:
    وكيف تلعنك قلوبهم؟
    قال رضي الله عنه:
    " تكرهني"..!
    أرأيتم؟؟
    انه يرى في كراهيّة العالم لعنة لا يطيقها.. ومن ثمّ فهو يضرع الى ربه أن يعيذه منها..
    وتستوصي حكمة أبي الدرداء بالاخاء خيرا، وتبنى علاقة الانسان بالانسان على أساس من واقع الطبيعة الانسانية ذاتها فيقول:
    " معاتبة الأخ خير لك من فقده، ومن لك بأخيك كله..؟
    أعط أخاك ولن له..
    ولا تطع فيه حاسدا، فتكون مثله.
    غدا يأتيك الموت، فيكفيك فقده..
    وكيف تبكيه بعد الموت، وفي الحياة ما كنت أديت حقه"..؟؟
    ومراقبة الله في عباده قاعدة صلبة يبني عليها أبو الدرداء حقوق الاخاء..
    يقول رضي الله عنه وأرضاه:
    " اني أبغض أن أظلم أحدا.. ولكني أبغض أكثر وأكثر، أن أظلم من لا يستعين عليّ الا بالله العليّ الكبير"..!!
    يا لعظمة نفسك، واشراق روحك يا أبا الدرداء..!!
    هذا هو أبو الدرداء الحكيم..!
    هذا هو أبو الدرداء الزاهد، العابد، الأوّاب..
    هذا هو أبو الدرداء الذي كان اذا أطرى الناس تقاه، وسألوه الدعاء، أجابهم في تواضع وثيق قائلا:
    " لا أحسن السباحة.. وأخاف الغرق"..!!
    كل هذا، ولا تحسن السباحة يا أبا الدرداء..؟؟
    ولكن أي عجب، وأنت تربية الرسول عليه الصلاة والسلام... وتلميذ القرآن.. وابن الاسلام الأوّل وصاحب أبي بكر وعمر، وبقيّة الرجال..!



    </B></FONT>
    ×NeDoOo×
    ×NeDoOo×
    مشرف المنتدى العام


    عدد المساهمات : 8357
    الجنس : ذكر
    العمر : 30
    الدوله : PalesTine
    العمل : twjihe
    المزاج : عل مزاج
    التميز الذهبي

    سلسلة رجال حول الرسول ..2  Empty رد: سلسلة رجال حول الرسول ..2

    مُساهمة من طرف ×NeDoOo× السبت أغسطس 21, 2010 9:28 pm

    { بلال بن رباح - الساخر من الأهوال }

    كان عمر بن الخطاب، اذا ذكر أبو بكر قال:
    أبو بكر سيدنا وأعتق سيّدنا"..
    يعني بلالا رضي الله عنه..
    وان رجلا يلقبه عمر بسيدنا هو رجل عظيم ومحظوظ..
    لكن هذا الرجل الشديد السمرة، النحيف الناحل، المفرط الطول الكث الشعر، الخفيف العارضين، لم يكن يسمع كلمات المدح والثناء توجه اليه، وتغدق عليه، الا ويحني رأسه ويغض طرفه، ويقول وعبراته على وجنتيه تسيل:
    "انما أنا حبشي.. كنت بالأمس عبدا"..!!
    فمن هذا الحبشي الذي كان بالأمس عبدا..!!
    انه "بلال بن رباح" مؤذن الاسلام، ومزعج الأصنام..
    انه احدى معجزات الايمان والصدق.
    احدى معجزات الاسلام العظيم..
    في كل عشرة مسلمين. منذ بدأ الاسلام الى اليوم، والى ما شاء الله سنلتقي بسبعة على الأقل يعرفون بلالا..
    أي أن هناك مئات الملايين من البشر عبر القرون والأجيال عرفوا بلالا، وحفظوا اسمه، وعرفوا دوره. تماما كما عرفوا أعظم خليفتين في الاسلام: أبي بكر وعمر...!!
    وانك لتسأل الطفل الذي لا يزال يحبو في سنوات دراسته الأولى في مصر، أ، باكستان، أ، الصين..
    وفي الأمريكيتين، وأوروبا وروسيا..
    وفي العراق ، وسوريا، وايران والسودان..
    في تونس والمغرب والجزائر..
    في أعماق أفريقيا، وفوق هضاب آسيا..
    في كل يقعة من الأرض يقتنها مسلمون، تستطيع أن تسأل أي طفل مسلم: من بلال يا غلام؟
    فيجيبك: انه مؤذن الرسول.. وانه العبد الذي كان سيّده يعذبه بالحجارة المستعرّة ليردّه عن دينه، فيقول:
    "أحد.. أحد.."
    وحينما تبصر هذا الخلود الذي منحه الاسلام بلالا.. فاعلم أن بلال هذا، لم يكن قبل الاسلام أكثر من عبد رقيق، يرعى ابل سيّده على حفنات من التمر، حتى يطو به الموت، ويطوّح به الى أعماق النسيان..
    لكن صدق ايمانه، وعظمة الدين الذي آمن به بوأه في حياته، وفي تاريخه مكانا عليّا في الاسلام بين العظماء والشرفاء والكرماء...
    ان كثيرا من عليّة البشر، وذوي الجاه والنفوذ والثروة فيهم، لم يظفروا بمعشار الخلود الذي ظفر به بلال العبد الحبشي..!!
    بل ان كثيرا من أبطال التاريخ لم ينالوا من الشهرة التاريخية بعض الذي ناله بلال..
    ان سواد بشرته، وتواضع حسبه ونسبه، وهوانه على الانس كعبد رقيق، لم يحرمه حين آثر الاسلام دينا، من أن يتبوأ المكان الرفيع الذي يؤهله له صدقه ويقينه، وطهره، وتفانيه..
    ان ذلك كله لم يكن له في ميزان تقييمه وتكريمه أي حساب، الا حساب الدهشة حين توجد العظمة في غير مظانها..
    فلقد كان الناس يظنون أن عبدا مثل بلال، ينتمي الى أصول غريبة.. ليس له أهل، ولا حول، ولا يملك من حياته شيئا، فهو ملك لسيّده الذي اشتراه بماله.. يروح ويغدو وسط شويهات سيده وابله وماشيته..
    كانوا يظنون أن مثل هذا الكائن، لا يمكن أن يقدر على شيء ولا أن يكون شيئا..
    ثم اذا هو يخلف الظنون جميعا، فيقدر على ايمان، هيهات أن يقدر على مثله سواه.. ثم يكون أول مؤذن للرسول والاسلام العمل الذي كان يتمناه لنفسه كل سادة قريش وعظمائها من الذين أسلموا واتبعوا الرسول..!!
    أجل.. بلال بن رباح!
    أيّة بطولة.. وأيّة عظمة تعبر عنها هذه الكلمات الثلاث بلال ابن رباح..؟!
    انه حبشي من أمة السود... جعلته مقاديره عبدا لأناس من بني جمح بمكة، حيث كانت أمه احدى امائهم وجواريهم..
    كان يعيش عيشة الرقيق، تمضي أيامه متشابهة قاحلة، لا حق له في يومه، ولا أمل له في غده..!!
    ولقد بدأت أنباء محمد تنادي سمعه، حين أخذ الانس في مكة يتناقلونها، وحين كان يصغي الى أحاديث ساداته وأضيافهم، سيما "أمية بن خلف" أحد شيوخ بني جمح القبيلة التي كان بلال أحد عبيدها..
    لطالما سمع أمية وهو يتحدّث مع أصدقائه حينا، وأفراد قبيلته أحيانا عن الرسول حديثا يطفح غيظا، وغمّا وشرا..
    وكانت أذن بلال تلتقط من بين كلمات الغيظ المجنون، الصفات التي تصور له هذا الدين الجديد.. وكان يحس أنها صفات جديدة على هذه البيئة التي يعيش فيها.. كما كانت أذنه تلتقط من خلال أحاديثهم الراعدة المتوعدة اعترافهم بشرف محمد وصدقه وأمانته..!!
    أجل انه ليسمعهم يعجبون، ويحارون، في هذا الذي جاء به محمد..!!
    ويقول بعضهم لبعض: ما كان محمد يوما كاذبا. ولا ساحرا..ولا مجنونا.. وان ام يكن لنا بد من وصمه اليوم بذلك كله، حتى نصدّ عنه الذين سيسارعون الى دينه..!!
    سمعهم يتحدّثون عن أمانته..
    عن وفائه..
    عن رجولته وخلقه..
    عن نزاهته ورجاحة عقله..
    وسمعهم يتهامسون بالأسباب التي تحملهم على تحديّ وعداوته، تلك هي: ولاؤهم لدين آبائهم أولا. والخوف على مجد قريش ثانيا، ذلك المجد الذي يفيئه عليها مركزها الديني، كعاصمة للعبادة والنسك في جزيرة العرب كلها، ثم الحقد على بني هاشم، أن يخرج منهم دون غيرهم نبي ورسول...!
    وذات يوم يبصر بلال ب رباح نور الله، ويسمع في أعماق روحه الخيّرة رنينه، فيذهب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسلم..
    ولا يلبث خبر اسلامه أن يذيع.. وتدور الأرض برؤوس أسياده من بني جمح.. تلك الرؤوس التي نفخها الكبر وأثقلها الغرور..!! وتجثم شياطين الأرض فوق صدر أميّة بن خلف الذي رأى في اسلام عبد من عبيدهم لطمة جللتهم جميعا بالخزي والعار..
    عبدهم الحبشي يسلم ويتبع محمد..؟!
    ويقول أميّة لنفسه: ومع هذا فلا بأس.. ان شمس هذا اليوم لن تغرب الا ويغرب معها اسلام هذا العبد الآبق..!!
    ولكن الشمس لم تغرب قط باسلام بلال بل غربت ذات يوم بأصنام قريش كلها، وحماة الوثنية فيها...!
    أما بلال فقد كان له موقف ليس شرفا للاسلام وحده، وان كان الاسلام أحق به، ولكنه شرف للانسانية جميعا..
    لقد صمد لأقسى الوان التعذيب صمود البرار العظام.
    ولكأنما جعله الله مثلا على أن سواد البشرة وعبودية الرقبة لا ينالان من عظمة الروح اذا وجدت ايمانها، واعتصمت بباريها، وتشبثت بحقها..
    لقد أعطى بلال درسا بليغا للذين في زمانه، وفي كل مان، للذين على دينه وعلى كل دين.. درسا فحواه أن حريّة الضمير وسيادته لا يباعان بملء الأرض ذهبا، ولا بملئها عذابا..
    لقد وضع عريانا فوق الجمر، على أن يزيغ عن دينه، أو يزيف اقتناعه فأبى..
    لقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام، والاسلام، من هذا العبد الحبشي المستضعف أستاذا للبشرية كلها في فن احترام الضمير، والدفاع عن حريته وسيادته..
    لقد كانوا يخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها الى جهنم قاتلة.. فيطرحونه على حصاها الماتهب وهو عريان، ثم يأتون بحجر مستعر كالحميم ينقله من مكانه بضعة رجال، ويلقون به فوق جسده وصدره..
    ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم، حتى رقّت لبلال من هول عذابه بعض قلوب جلاديه، فرضوا آخر الأمر أن يخلوا سبيله، على أن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة تحفظ لهم كبرياءهم، ولا تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم واصراره..
    ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة التي يستطيع أن يلقيها من وراء قلبه، ويشتري بها حياته نفسه، دون أن يفقد ايمانه، ويتخلى عن اقتناعه..
    حتى هذه الكلمة الواحدة رفض بلال أن يقولها..!
    نعم لقد رفض أن يقولها، وصار يردد مكانها نشيده الخالد:"أحد أحد"
    يقولون له: قل كما نقول..
    فيجيبهم في تهكم عجيب وسخرية كاوية:
    "ان لساني لا يحسنه"..!!
    ويظل بلال في ذوب الحميم وصخره، حتى اذا حان الأصيل أقاموه، وجعلوا في عنقه حبلا، ثم أمروا صبيانهم أن يطوفوا به جبال مكة وشوارعها. وبلال لا يلهج لسانه بغير نشيده المقدس:" أحد أحد".
    وكأني اذا جنّ عليهم الليل يساومونه:
    غدا قل كلمات خير في آلهتنا، قل ربي اللات والعزى، لنذرك وشأتك، فقد تعبنا من تعذيبك، حتى لكأننا نحن المعذبون!
    فيهز رأسه ويقول:" أحد.. أحد..".
    ويلكزه أمية بن خلف وينفجر غمّا وغيظا، ويصيح: أي شؤم رمانا بك يا عبد السوء..؟واللات والعزى لأجعلنك للعبيد والسادة مثلا.
    ويجيب بلال في يقين المؤمن وعظمة القديس:
    "أحد.. أحد.."
    ويعود للحديث والمساومة، من وكل اليه تمثيل دور المشفق عليه، فيقول:
    خل عنك يا أميّة.. واللات لن يعذب بعد اليوم، ان بلالا منا أمه جاريتنا، وانه لن يرضى أن يجعلنا باسلامه حديث قريش وسخريّتها..
    ويحدّق بلال في الوجوه الكاذبة الماكرة، ويفتر ثغره عن ابتسامة كضوء الفجر، ويقول في هدوء يزلزلهم زلزالا:
    "أحد.. أحد.."
    وتجيء الغداة وتقترب الظهيرة، ويؤخذ بلال الى الرمضاء، وهو صابر محتسب، صامد ثابت.
    ويذهب اليهم أبو بكر الصديق وهو يعذبونه، ويصيح بهم:
    (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)؟؟
    ثم يصيح في أميّة بن خلف: خذ أكثر من ثمنه واتركه حرا..
    وكأنما كان أمية يغرق وأدركه زورق النجاة..
    لقد طابت نفسه وسعدت حين سمع أبا بكر يعرض ثمن تحريره اذ كان اليأس من تطويع بلال قد بلغ في في نفوسهم أشده، ولأنهم كانوا من التجار، فقد أردكوا أن بيعه أربح لهم من موته..
    باعوه لأبي بكر الذي حرّره من فوره، وأخذ بلال مكانه بين الرجال الأحرار...
    </B></FONT>
    ×NeDoOo×
    ×NeDoOo×
    مشرف المنتدى العام


    عدد المساهمات : 8357
    الجنس : ذكر
    العمر : 30
    الدوله : PalesTine
    العمل : twjihe
    المزاج : عل مزاج
    التميز الذهبي

    سلسلة رجال حول الرسول ..2  Empty رد: سلسلة رجال حول الرسول ..2

    مُساهمة من طرف ×NeDoOo× السبت أغسطس 21, 2010 9:34 pm

    وحين كان الصدّيق يتأبط ذراع بلال منطلقا به الى الحرية قال له أمية:
    خذه، فواللات والعزى، لو أبيت الا أن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها..
    وفطن أبو بكر لما في هذه الكلمات من مرارة اليأس وخيبة الأمل وكان حريّا بألا يجيبه..
    ولكن لأن فيها مساسا بكرامة هذا الذي قد صار أخا له، وندّا،أجاب أمية قائلا:
    والله لو أبيتم أنتم الا مائة أوقية لدفعتها..!!
    وانطلق بصاحبه الى رسول الله يبشره بتحريره.. وكان عيدا عظيما!
    وبعد هجرة الرسول والمسلمين الى المدينة، واستقرارهم بها، يشرّع الرسول للصلاة أذانها..
    فمن يكون المؤذن للصلاة خمس مرات كل يوم..؟ وتصدح عبر الأفق تكبيراته وتهليلاته..؟
    انه بلال.. الذي صاح منذ ثلاث عشرة سنة والعذاب يهدّه ويشويه أن: "الله أحد..أحد".
    لقد وقع اختيار الرسول عليه اليوم ليكون أول مؤذن للاسلام.
    وبصوته النديّ الشجيّ مضى يملأ الأفئدة ايمانا، والأسماع روعة وهو ينادى:

    الله أكبر.. الله أكبر
    الله أكبر .. الله أكبر
    أشهد أن لااله الا الله
    أشهد أن لا اله الا الله
    أشهد أن محمدا رسول الله
    أشهد أن محمدا رسول الله
    حي على الصلاة
    حي على الصلاة
    حي على الفلاح
    حي على الفلاح
    الله أكبر.. الله أكبر
    لااله الا الله...
    ونشب القتال بين المسلمين وجيش قريش الذي قدم الى المدينة غازيا..
    وتدور الحرب عنيفة قاسية ضارية..وبلال هناك يصول ويجول في أول غزوة يخوضها الاسلام، غزوة بدر.. تلك الغزوة التي أمر الرسول عليه السلام أن يكون شعارها: "أحد..أحد".
    في هذه الغزوة ألقت قريش بأفلاذ أكبادها، وخرج أشرافها جميعا لمصارعهم..!!
    ولقد همّ بالنكوص عن الخروج "أمية بن خلف" .. هذا الذي كان سيدا لبلال، والذي كان يعذبه في وحشيّة قاتلة..
    همّ بالنكوص لولا أن ذهب اليه صديقه "عقبة بن أبي معيط" حين علم عن نبأ تخاذله وتقاعسه، حاملا في يمينه مجمرة حتى اذا واجهه وهو جالس وسط قومه، ألقى الجمرة بين يديه وقال له: يا أبا علي، استجمر بهبذ، فانما أنت من النساء..!!!
    وصاح به أمية قائلا: قبحك الله، وقبّح ما جئت به..
    ثم لم يجد بدّا من الخروج مع الغزاة فخرج..
    أيّة أسرار للقدر، يطويها وينشرها..؟
    لقد كان عقبة بن أبي معيط أكبر مشجع لأمية على تعذيب بلال، وغير بلال من المسلمين المستضعفين..
    واليوم هو نفسه الذي يغريه بالخروج الى غزوة بدر التي سيكون فيها مصرعه..!!
    كما سيكون فيها مصرع عقبة أيضا!
    لقد كان أمية من القاعدين عن الحرب.. ولولا تشهير عقبة به على هذا النحو الذي رأيناه لما خرج..!!
    ولكن الله بالغ أمره، فليخرج أمية فان بينه وبين عبد من عباد الله حسابا قديما، جاء أوان تصفيته، فالديّان لا يموت، وكما تدينون تدانون..!!
    وان القدر ليحلو له أن يسخر بالجبارين.. فعقبة الذي كان أمية يصغي لتحريضه، ويسارع اى هواه في تعذيب المؤمنين الأبرياء، هو نفسه الذب سيقود أميّة الى مصرعه..
    وبيد من..؟
    بيد بلال نفسه.. وبلال وحده!!
    نفس اليد التي طوّقها أميّة بالسلاسل، وأوجع صاحبها ضربا، وعذابا..
    مع هذه اليد ذاتها، هي اليوم، وفي غزوة بدر، على موعد أجاد القدر توقيته، مع جلاد قريش الذي أذل المؤمنين بغيا وعدوا..
    ولقد حدث هذا تماما..
    وحين بدأ القتال بين الفريقين، وارتج جانب المعركة من قبل المسلمين بشعارهم:" أحد.. أحد" انخلع قلب أمية، وجاءه النذير..
    ان الكلمة التي كان يرددها بالأمس عبد تحت وقع العذاب والهول قد صارت اليوم شعار دين بأسره وشعار الأمة الجديدة كلها..!!
    "أحد..أحد"؟؟!!
    أهكذا..؟ وبهذه السرعة.. وهذا النمو العظيم..؟؟
    وتلاحمت السيوف وحمي القتال..
    وبينما المعركة تقترب من نهايتها، لمح أمية بن خلف" عبد الرحمن بن عوف" صاحب رسول الله، فاحتمى به، وطلب اليه أن يكون أسيره رجاء أن يخلص بحياته..
    وقبل عبد الرحمن عرضه وأجاره، ثم سار به وسط العمعمة الى مكان السرى.
    وفي الطريق لمح بلال فصاح قائلا:
    "رأس الكفر أميّة بن خلف.. لا نجوت ان نجا".
    ورفع سيفه ليقطف الرأس الذي لطالما أثقله الغرور والكبر، فصاح به عبد الرحمن بن عوف:
    "أي بلال.. انه أسيري".
    أسير والحرب مشبوبة دائرة..؟
    أسير وسيفه يقطر دما مما كان يصنع قبل لحظة في أجساد المسلمين..؟
    لا.. ذلك في رأي بلال ضحك بالعقول وسخرية.. ولقد ضحك أمية وسخر بما فيه الكفاية..
    سخر حتى لم يترك من السخرية بقية يدخرها ليوم مثل هذا اليوم، وهذا المأزق، وهذا المصير..!!
    ورأى بلال أنه لن يقدر وحده على اقتحام حمى أخيه في الدين عبد الرحمن بن عوف، فصاح بأعلى صوته في المسلمين:
    "يا أنصار الله.. رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت ان نجا"...!
    وأقبلت كوكبة من المسلمين تقطر سيوفهم المنايا، وأحاطت بأمية وابنه ولم يستطع عبد الرحمن بن عوف أن يصنع شيئا.. بل لم يستطع أن يحمي أذراعه التي بددها الزحتم.
    وألقى بلال على جثمان أمية الذي هوى تحت السيوف القاصفة نظرة طويلة، ثم هرول عنه مسرعا وصوته النديّ يصيح:
    "أحد.. أحد.."
    لا أظن أن من حقنا أن نبحث عن فضيلة التسامح لدى بلال في مثل هذا المقام..
    فلو أن اللقاء بين بلال وأمية تمّ في ظروف أخرى، لجازنا أن نسال بلالا حق التسامح، وما كان لرجل في مثل ايمانه وتقاه أن يبخل به.
    لكن اللقاء الذي تم بينهما، كان في حرب، جاءها كل فريق ليفني غريمه..
    السيوف تتوهج.. والقتلى يسقطون.. والمنايا تتواثب، ثم يبصر بلال أمية الذي لم يترك في جسده موضع أنملة الا ويحمل آثار تعذيب.
    وأين يبصره وكيف..؟
    يبصره في ساحة الحرب والقتال يحصد بسيفه كل ما يناله من رؤوس المسلمين، ولو أدرك رأس بلال ساعتئذ لطوّح به..
    في ظروف كهذه يلتقي الرجلان فيها، لا يكون من المنطق العادل في شيء أن نسأل بلالا: لماذا لم يصفح الصفح الجميل..؟؟
    وتمضي الأيام وتفتح مكة..
    ويدخلها الرسول شاكرا مكبرا على رأس عشرة آلاف من المسلمين..
    ويتوجه الى الكعبة رأسا.. هذا المكان المقدس الذي زحمته قريش بعدد أيام السنة من الأصنام..!!
    لقد جاء الحق وزهق الباطل..
    ومن اليوم لا عزى.. ولا لات.. ولا هبل.. لن يجني الانسان بعد اليوم هامته لحجر، ولا وثن.. ولن يعبد الناس ملء ضمائرهم الا الله الي ليس كمثله شيء، الواحد الأحد، الكبير المتعال..
    ويدخل الرسول الكعبة، مصطحبا معه بلال..!
    ولا يكاد يدخلها حتى يواجه تمثالا منحوتا، يمثل ابراهيم عليه السلام وهو يستقسم بالأزلام، فيغضب الرسول ويقول:
    "قاتلهم الله..
    ما كان شيخنا يستقسم بالأزلام.. ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين".
    ويأمر بلال أن يعلو ظهر المسجد، ويؤذن.
    ويؤذن بلال.. فيالروعة الزمان، واملكان، والمناسبة..!!
    كفت الحياة في مكة عن الحركة، ووقفت الألوف المسلمة كالنسمة الساكنة، تردد في خشوع وهمس كلمات الآذان ورء بلال.
    والمشركون في بيوتهم لا يكادون يصدقون:
    أهذا هو محمد وفقراؤه الذين أخرجوا بالأمس من هذا الديار..؟؟
    أهذا هو حقا، ومعه عشرة آلاف من المؤمنين..؟؟
    أهذا هو حقا الذي قاتلناه، وطاردنبه، وقتلنا أحب الناس اليه..؟
    أهذا هو حقا الذي كان يخاطبنا من لحظات ورقابنا بين يديه، ويقول لنا:
    "اذهبوا فأنتم الطلقاء"..!!
    ولكن ثلاثة من أشراف قريش، كانوا جلوسا بفناء الكعبة، وكأنما يلفحهم مشهد بلال وهو يدوس أصنامهم بقدميه، ويرسل من فوق ركامها المهيل صوته بالأذان المنتشر في آفاق مكة كلها كعبير الربيع..
    أما هؤلاء الثلاثة فهم، أبوسفيان بن حرب، وكان قد أسلم منذ ساعات، وعتّاب بن أسيد، والحارث بن هشام، وكانا لم يسلما بعد.
    قال عتاب وعينه على بلال وهو يصدح بأذانه:
    لقد أكرم الله اسيدا، ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه. وقال الحارث:
    أما والله لو أعلم أن محمدا محق لاتبعته..!!
    وعقب أبو سفيان الداهية على حديثهما قائلا:
    اني لا أقول شيئا، فلو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى!! وحين غادر النبي الكعبة رآهم، وقرأ وجوههم في لحظة، قال وعيناه تتألقان بنور الله، وفرحة النصر:
    قد علمت الذي قلتم..!!!
    ومضى يحدثهم بما قالوا..
    فصاح الحارث وعتاب:
    نشهد أنك رسول الله، والله ما سمعنا أحد فنقول أخبرك..!!
    واستقبلا بلال بقلوب جديدة..في أفئدتهم صدى الكلمات التي سمعوها في خطاب الرسول أول دخول مكة:
    " يامعشر قريش..
    ان الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء..
    الناس من آدم وآدم من تراب"..
    وعاش بلال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشهد معه المشاهد كلها، يؤذن للصلاة، ويحيي ويحمي شعائر هذا الدين العظيم الذي أخرجه من الظلمات الى النور، ومن الرق الى الحريّة..
    وعلا شأن الاسلام، وعلا معه شأن المسلمين، وكان بلال يزداد كل يوم قربا من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يصفه بأنه:" رجل من أهل الجنة"..
    لكن بلالا بقي كما هو كريما متواضعا، لا يرى نفسه الا أنه:" الحبشي الذي كان بالأمس عبدا"..!!
    ذهب يوما يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين فقال لأبيهما:
    "أنا بلال، هذا أخي عبدان من الحبشة.. كنا ضالين فهدانا الله.. ومنا عبدين فأعتقنا الله.. ان تزوّجونا فالحمد لله.. وان تمنعونا فالله أكبر.."!!
    وذهب الرسول الى الرفيق الأعلى راضيا مرضيا، ونهض بأمر المسلمين من بعده خليفته أبو بكر الصديق..
    وذهب بلال الى خليفة رسول الله يقول له:
    " يا خليفة رسول الله..
    اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أفضل عمل لبمؤمن الجهاد في سبيل الله"..
    فقال له أبو بكر: فما تشاء يا بلال..؟
    قال: أردت أن أرابط في سبيل الله حتىأموت..
    قال أبو بكر ومن يؤذن لنا؟
    قال بلال وعيناه تفيضان من الدمع، اني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله.
    قال أبو بكر: بل ابق وأذن لنا يا بلال..
    قال بلال: ان كنت أعتقتني لأكون لك فليكن لك ما تريد. وان كنت أعتقتني لله فدعني وما أعتقتني له..
    قالأبو بكر: بل أعتقتك لله يا بلال..
    ويختلف الرواة، فيروي بعضهم أنه سافر الى الشام حيث بقي فيها مجاهدا مرابطا.
    ويروي بعضهم الآخر، أنه قبل رجاء أبي بكر في أن يبقى معه بالمدينة، فلما قبض وولي عمر الخلافة استأذنه وخرج الى الشام.
    على أية حال، فقد نذر بلال بقية حياته وعمره للمرابطة في ثغور الاسلام، مصمما أن يلقى الله ورسوله وهو على خير عمل يحبانه.
    ولم يعد يصدح بالأذان بصوته الشجي الحفيّ المهيب، ذلك أنه لم ينطق في أذانه "أشهد أن محمدا رسول الله" حتى تجيش به الذمؤيات فيختفي صوته تحت وقع أساه، وتصيح بالكلمات دموعه وعبراته.
    وكان آخر أذان له أيام زار أمير المؤمنين عمر وتوسل المسلمون اليه أن يحمل بلالا على أن يؤذن لهم صلاة واحدة.
    ودعا أمير المؤمنين بلال، وقد حان وقت الصلاة ورجاه أن يؤذن لها.
    وصعد بلال وأذن.. فبكى الصحابة الذين كانوا أدركوا رسول الله وبلال يؤذن له.. بكوا كما لم يبكوا من قبل أبدا.. وكان عمر أشدهم بكاء..!!
    ومات بلال في الشام مرابطا في سبيل الله كما أراد.
    وتحت ثرى دمشق يثوي اليوم رفات رجل من أعظم رجال البشر صلابة في الوقوف الى جانب العقيدة والاقتناع...
    ×NeDoOo×
    ×NeDoOo×
    مشرف المنتدى العام


    عدد المساهمات : 8357
    الجنس : ذكر
    العمر : 30
    الدوله : PalesTine
    العمل : twjihe
    المزاج : عل مزاج
    التميز الذهبي

    سلسلة رجال حول الرسول ..2  Empty رد: سلسلة رجال حول الرسول ..2

    مُساهمة من طرف ×NeDoOo× السبت أغسطس 21, 2010 9:37 pm

    { عبد الرحمن بن عوف ما يبكيك ياأبا محمد }


    ذات يوم، والمدينة ساكنة هادئة، أخذ يقترب من مشارفها نقع كثيف، راح يتعالى ويتراكم حتى كاد يغطي الأفق.
    ودفعت الريح هذه الأمواج من الغبار المتصاعد من رمال الصحراء الناعمة، فاندفعت تقترب من أبواب المدينة، وتهبّ هبوبا قويا على مسالكها.
    وحسبها الناس عاصفة تكنس الرمال وتذروها، لكنهم سرعان ما سمعوا وراء ستار الغبار ضجة تنبئ عن قافلة كبيرة مديدة.
    ولم يمض وقت غير وجيز، حتى كانت سبعمائة راحلة موقرة الأحمال تزحم شوارع المدينة وترجّها رجّا، ونادى الناس بعضهم بعضا ليروا مشهدها الحافل، وليستبشروا ويفرحوا بما تحمله من خير ورزق..
    وسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقد ترتمت الى سمعها أصداء القافلة الزاحفة..
    سألت: ما هذا الذي يحدث في المدينة..؟
    وأجيبت: انها قافلة لعبدالرحمن بن عوف جاءت من الشام تحمل تجارة له..
    قالت أم المؤمنين:
    قافلة تحدث كل هذه الرّجّة..؟!
    أجل يا ام المؤمنين.. انها سبعمائة راحلة..!!
    وهزت أم المؤمنين رأسها، وأرسلت نظراتها الثاقبة بعيدا، كأنها تبحث عن ذكرى مشهد رأته، أو حديث سمعته..
    "أما اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
    رأيت عبدالرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا"..
    عبدالرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا..؟
    ولماذا لا يدخلها وثبا هرولة مع السابقين من أصحاب رسول الله..؟
    ونقل بعض أصحابه مقالة عائشة اليه، فتذكر أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث أكثر من مرة، وبأكثر من صيغة.
    وقبل أن تفضّ مغاليق الأحمال من تجارته، حث خطاه الى بيت عائشة وقال لها: لقد ذكّرتيني بحديث لم أنسه..
    ثم قال:
    " أما اني أشهدك أن هذه القافلة بأحمالها، وأقتابها، وأحلاسها، في سبيل الله عز وجل"..
    ووزعت حمولة سبعمائة راحلة على أهل المدينة وما حولها في نهرجان برّ عظيم..!!
    هذه الواقعة وحدها، تمثل الصورة الكاملة لحياة صاحب رسول الله عبدالرحمن بن عوف".
    فهو التاجر الناجح، أكثر ما يكون النجاح وأوفاه..
    وهو الثري، أكثر ما يكون الثراء وفرة وافراطا..
    وهو المؤمن الأريب، الذي يأبى أن تذهب حظوظه من الدين، ويرفض أن يتخلف به ثراؤه عن قافلة الايمان ومثوبة الجنة.. فهو رضي الله عنه يجود بثروته في سخاء وغبطة ضمير..!!
    متى وكيف دخل هذا العظيم الاسلام..؟
    لقد أسلم في وقت مبكر جدا..
    بل أسلم في الساعات الأولى للدعوة، وقبل أن يدخل رسول الله دار الأرقم ويتخذها مقرا لالتقائه بأصحابه المؤمنين..
    فهو أحد الثمانية الذن سبقوا الى الاسلام..
    عرض عليه أبوبكر الاسلام هو وعثمان بن عفان والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص، فما غمّ عليهم الأمر ولا أبطأ بهم الشك، بل سارعوا مع الصدّيق الى رسول الله يبايعونه ويحملون لواءه.
    ومنذ أسلم الى أن لقي ربه في الخامسة والسبعين من عمره، وهو نموذج باهر للمؤمن العظيم، مما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يضعه مع العشرة الذين بشّرهم بالجنة.. وجعل عمر رضي الله عنه يضعه مع أصحاب الشورى الستة الذين جعل الخلافة فيهم من بعده قائلا:" لقد توفي رسول الله وهو عنهم راض".
    وفور اسلام عبدالرحمن بن عوف حمل حظه المناسب، ومن اضطهاد قريش وتحدّياتها..
    وحين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة الى الحبشة هاجر ابن عوف ثم عاد الى مكة، ثم هاجر الى الحبشة في الهجرة الثانية ثم هاجر الى المدينة.. وشهد بدرا، وأحدا، والمشاهد كلها..
    وكان محظوظا في التجارة الى حدّ أثار عجبه ودهشه فقال:
    " لقد رأيتني، لو رفعت حجرا، لوجدت تحت فضة وذهبا"..!!
    ولم تكن التجارة عند عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه شرها ولا احتكارا..
    بل لم تكن حرصا على جمع المال شغفا بالثراء..
    كلا..
    انما كانت عملا، وواجبا يزيدهما النجاح قربا من النفس، ومزيدا من السعي..
    وكان ابن عوف يحمل طبيعة جيّاشة، تجد راحتها في العمل الشريف حيث يكون..
    فهو اذا لم يكن في المسجد يصلي، ولا في الغزو يجاهد فهو في تجارته التي نمت نموا هائلا، حتى أخذت قوافله تفد على المدينة من مصر، ومن الشام، محملة بكل ما تحتاج اليه جزيرة العرب من كساء وطعام..
    ويدلّنا على طبيعته الجيّاشة هذه، مسلكه غداة هجر المسلمين الى المدينة..
    لقد جرى نهج الرسول يومئذ على أن يؤاخي بين كل اثنين من أصحابه، أحدهما مهاجر من مكة، والآخر أنصاري من المدينة.
    وكانت هذه المؤاخات تم على نسق يبهر الألباب، فالأنصاري من أهل المدينة يقاسم أخاه المهاجر كل ما يملك.. حتى فراشه، فاذا كان تزوجا باثنين طلق احداهما، ليتزوجها أخوه..!!
    ويومئذ آخى الرسول الكريم بين عبدالرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع..
    ولنصغ للصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه يروي لنا ما حدث:
    " .. وقال سعد لعبدالرحمن: أخي، أنا أكثر أهل المدينة مالا، فانظر شطر مالي فخذه!!
    وتحتي امرأتان، فانظر أيتهما أعجب لك حتى أطلقها، وتتزوجها..!
    فقال له عبدالرحمن بن عوف:
    بارك الله لك في أهلك ومال..
    دلوني على السوق..
    وخرج الى السوق، فاشترى.. وباع.. وربح"..!!
    وهكذا سارت حياته في المدينة، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، أداء كامل لحق الدين، وعمل الدنيا.. وتجارة رابحة ناجحة، لو رفع صاحبها على حد قوله حجرا من مكانه لوجد تحته فضة وذهبا..!!
    ومما جعل تجارته ناجحة مباركة، تحرّيه الحلال، ونأيه الشديد عن الحرام، بل عن الشبهات..
    كذلك مما زادها نجاخا وبركة أنها لم تكن لعبدالرحمن وحده.. بل كان لله فيها نصيب أوفى، يصل به أهله، واخوانه، ويجهّز به جيوش الاسلام..
    واذا كانت التجارة والثروات، انما تحصى بأعداد رصيدها وأرباحها فان ثروة عبدالرحمن بن عوف انما تعرف مقاديرها وأعدادها بما كان ينفق منها في سبيل الله رب العالمين..!!
    لقد سمع رسول الله يقول له يوما:
    " يا بن عوف انك من الأغنياء..
    وانك ستدخل الجنة حبوا..
    فأقرض الله يطلق لك قدميك"..
    ومن سمع هذا النصح من رسول الله، وهو يقرض ربه قرضا حسنا، فيضاعفه له أضعافا كثيرة.
    باع في يوم أرضا بأربعين ألف دينار، ثم فرّقها في أهله من بني زهرة، وعلى أمهات المؤمنين، وفقراء المسلمين.
    وقدّم يوما لجيوش الاسلام خمسمائة فرس، ويوما آخر الفا وخمسمائة راحلة.
    وعند موته، أوصى بخمسن ألف دينار في سبيل الله، وأ،صى لكل من بقي ممن شهدوا بدرا بأربعمائة دينار، حتى ان عثمان بن عفان رضي الله عنه، أخذ نصيبه من الوصية برغم ثرائه وقال:" ان مال عبدالرحمن حلال صفو، وان الطعمة منه عافية وبركة".
    كان ابن عوف سيّد ماله ولم يكن عبده..
    وآية ذلك أنه لم يكن يشقى بجمعه ولا باكتنازه..
    بل هو يجمعه هونا، ومن حلال.. ثم لا ينعم به وحده.. بل ينعم به معه أهله ورحمه واخوانه ومجتمعه كله.
    ولقد بلغ من سعة عطائه وعونه أنه كان يقال:
    " أهل المدينة جميعا شركاء لابن عوف في ماله.
    " ثلث يقرضهم..
    وثلث يقضي عنهم ديونهم..
    وثلث يصلهم ويعطيهم.."
    ولم يكن ثراؤه هذا ليبعث الارتياح لديه والغبطة في نفسه، لو لم يمكّنه من مناصرة دينه، ومعاونة اخوانه.
    أما بعد هذا، فقد كان دائم الوجل من هذا الثراء..
    جيء له يوما بطعام الافطار، وكان صائما..
    فلما وقعت عيناه عليه فقد شهيته وبكى وقال:
    " استشهد مصعب بن عمير وهو خير مني، فكفّن في بردة ان غطت رأسه، بدت رجلاه، وان غطت رجلاه بدا رأسه.
    واستشهد حمزة وهو خير مني، فلم يوجد له ما يدفن فيه الا بردة.
    ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، وأعطينا منها ما أعطينا واني لأخشى أن نكون قد عجّلت لنا حسناتنا"..!!
    واجتمع يوما مع بعض أصحابه على طعام عنده.
    وما كاد الطعام يوضع أمامهم حتى بكى وسألوه:
    ما يبكيك يا أبا محمد..؟؟
    قال:
    " لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شبع هو وأهل بيته من خبز الشعير..
    ما أرانا أخرنا لم هو خير لنا"..!!
    كذلك لم يبتعث ثراؤه العريض ذرة واحدة من الصلف والكبر في نفسه..
    حتى لقد قيل عنه: انه لو رآه غريب لا يعرفه وهو جالس مع خدمه، ما استطاع أ، يميزه من بينهم..!!
    لكن اذا كان هذا الغريب يعرف طرفا من جهاد ابن عوف وبلائه، فيعرف مثلا أنه أصيب يوم أحد بعشرين جراحة، وان احدى هذه الاصابات تركت عرجا دائما في احدى ساقيه.. كما سقطت يوم أحد بعض ثناياه. فتركت همّا واضحا في نطقه وحديثه..

    عندئذ لا غير، يستطيع هذا الغريب أن يعرف أن هذا الرجل الفارع القامة، المضيء الوجه، الرقيق البشرة، الأعرج، الأهتم من جراء اصابته يوم أحد هو عبدالرحمن بن عوف..!!

    رضي الله عنه وأرضاه..
    لقد عوّدتنا طبائع البشر أن الثراء ينادي السلطة...
    أي أن الأثرياء يحبون دائما أن يكون لهم نفوذ يحمي ثراءهم ويضاعفه، ويشبع شهوة الصلف والاستعلاء والأنانية التي يثيرها الثراء عادة..
    فاذا رأينا عبدالرحمن بن عوف في ثرائه العريض هذا، رأينا انسانا عجبا يقهر طبائع البشر في هذا المجال ويتخطاها الى سموّ فريد..!
    حدث ذلك عندما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجود بروحه الطاهرة، ويختار ستة رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليختاروا من بينهم الخليفة الجديد..
    كانت الأصابع تومئ نحو ابن عوف وتشير..
    ولقد فاتحه بعض الصحابة في أنه أحق الستة بالخلافة، فقال:
    " والله، لأن تؤخذ مدية، فتوضع في حلقي، ثم ينفذ بها الى الجانب الآخر أحب اليّ من ذلك"..!!
    وهكذا لم يكد الستة المختارون يعقدون اجتماعهم ليختاروا أحدهم خليفة بعد الفاروق عمر حتى أنبأ اخوانه الخمسة الآخرين أنه متنازل عن الحق الذي أضفاه عمر عليه حين جعله أحد الستة الذين يختار الخليفة منهم.. وأنّ عليهم أن يجروا عملية الاختيار بينهم وحدهم أي بين الخمسة الآخرين..
    وسرعان ما أحله هذا الزهد في المنصب مكان الحكم بين الخمسة الأجلاء، فرضوا أن يختار هو الخليفة من بينهم، وقال الامام علي:
    " لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفك بأنك أمين في أهل السماء، وأمين في أهل الأرض"..
    واختار ابن عوف عثمان بن عفان للخلافة، فأمضى الباقون اختياره.
    هذه حقيقة رجل ثري في الاسلام..
    فهل رأيتم ما صنع الاسلام به حتى رفعه فوق الثرى بكل مغرياته ومضلاته، وكيف صاغه في أحسن تقويم..؟؟
    وها هو ذا في العام الثاني والثلاثين للهجرة، يجود بأنفاسه..
    وتريد أم المؤمنين عائشة أن تخصّه بشرف لم تختصّ به سواه، فتعرض عليه وهو على فراش الموت أن يدفن في حجرتها الى جوار الرسول وأبي بكر وعمر..
    ولكنه مسلم أحسن الاسلام تأديبه، فيستحي أن يرفع نفسه الى هذا الجوار...!!
    ثم انه على موعد سابق وعهد وثيق مع عثمان بن مظعون، اذ تواثقا ذات يوم: أيهما مات بعد الآخر يدفن الى جوار صاحبه..
    وبينما كانت روحه تتهيأ لرحلتها الجديدة كانت عيناه تفيضان من الدمع ولسانه يتمتم ويقول:
    " اني أخاف أن أحبس عن أصحابي لكثرة ما كان لي من مال"..
    ولكن سكينة الله سرعان ما تغشته، فكست وجهه غلالة رقيقة من الغبطة المشرقة المتهللة المطمئنة..
    وأرهفت أذناه للسمع.. كما لو كان هناك صوت عذب يقترب منهما..
    لعله آنئذ، كان يسمع صدق قول الرسول صلى الله عليه وسلم له منذ عهد بعيد:
    " عبدالرحمن بن عوف في الجنة"..
    ولعله كان يسمع أيضا وعد الله في كتابه..
    ( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ثم لا يتبعون ما أنفقوا منّا ولا أذى، لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)..
    </B></FONT>
    صاحبة العيون العسليه
    صاحبة العيون العسليه
    --عضو متالق--


    عدد المساهمات : 897
    الجنس : انثى
    العمر : 34
    الدوله : فلسطينيه
    العمل : طالبه
    المزاج : عسسسل
    افضل مدونه

    سلسلة رجال حول الرسول ..2  Empty رد: سلسلة رجال حول الرسول ..2

    مُساهمة من طرف صاحبة العيون العسليه الثلاثاء أغسطس 24, 2010 8:42 pm

    شكرا الك
    اخي نيدو على هذا الطرح
    وان شاء الله في ميزان حسناتك
    دمت بخير اخي
    ×NeDoOo×
    ×NeDoOo×
    مشرف المنتدى العام


    عدد المساهمات : 8357
    الجنس : ذكر
    العمر : 30
    الدوله : PalesTine
    العمل : twjihe
    المزاج : عل مزاج
    التميز الذهبي

    سلسلة رجال حول الرسول ..2  Empty رد: سلسلة رجال حول الرسول ..2

    مُساهمة من طرف ×NeDoOo× الثلاثاء أغسطس 24, 2010 10:32 pm

    شكرا للمرور المعطر
    RRR
    RRR
    مشرفة منتدى الاسره


    عدد المساهمات : 4592
    الجنس : انثى
    العمر : 28
    الدوله : Palestine
    العمل : طالبة
    المزاج : LOVE Hip-Hop
    وسام حواء

    سلسلة رجال حول الرسول ..2  Empty رد: سلسلة رجال حول الرسول ..2

    مُساهمة من طرف RRR الأحد سبتمبر 12, 2010 8:59 pm

    شكرااااا اخي نيدووو
    على موضوعك القيم و المفيد
    جزاك الله خيرااااااااا
    تقبل مروري
    ×NeDoOo×
    ×NeDoOo×
    مشرف المنتدى العام


    عدد المساهمات : 8357
    الجنس : ذكر
    العمر : 30
    الدوله : PalesTine
    العمل : twjihe
    المزاج : عل مزاج
    التميز الذهبي

    سلسلة رجال حول الرسول ..2  Empty رد: سلسلة رجال حول الرسول ..2

    مُساهمة من طرف ×NeDoOo× الإثنين سبتمبر 13, 2010 8:57 pm

    شكرا لمرورك العطر
    انين الحزن
    انين الحزن
    كبار الشخصيات


    عدد المساهمات : 9398
    الجنس : ذكر
    العمر : 33
    الدوله : فلسطيني والي كل الفخر
    العمل : *****
    المزاج : بتحزرووووووش بلمره
    سلسلة رجال حول الرسول ..2  1010
    سلسلة رجال حول الرسول ..2  Empty

    سلسلة رجال حول الرسول ..2  Empty رد: سلسلة رجال حول الرسول ..2

    مُساهمة من طرف انين الحزن الخميس أبريل 07, 2011 5:49 pm

    شكرا لك اخ نيدو

    وجعله الله في ميزان حسناتك


    انين الحزن
    قاهر الدمعه
    ×NeDoOo×
    ×NeDoOo×
    مشرف المنتدى العام


    عدد المساهمات : 8357
    الجنس : ذكر
    العمر : 30
    الدوله : PalesTine
    العمل : twjihe
    المزاج : عل مزاج
    التميز الذهبي

    سلسلة رجال حول الرسول ..2  Empty رد: سلسلة رجال حول الرسول ..2

    مُساهمة من طرف ×NeDoOo× الثلاثاء يونيو 14, 2011 8:14 pm

    شكرا لمروركم

      الوقت/التاريخ الآن هو السبت نوفمبر 23, 2024 7:43 am